ثم يقول المصنف رحمه الله يصف الحالة الثانية: [وقد يشعر بمرضه ولكن يشتد عليه تحمل مرارة الدواء والصبر عليها، فيؤثر بقاء ألمه على الدواء، فإن دواءه في مخالفة الهوى، وذلك أصعب شيء على النفس، وليس له أنفع منه].
بعض الناس يعلم أنه مريض القلب؛ يقول لك: نحن غارقون في المعاصي، فما هو العلاج؟
فتقول له: علاجك أن تحافظ على صلاة الجماعة، وتترك المنكرات والمحرمات، وتستمع القرآن، وتخالط الأخيار، فيقول: هذه أدوية مرة جداً لا أستطيع أن أتحملها..!
فهذا يشعر بالمرض وفيه حياة، لكن الدواء عليه مر، فلا يستطيع أن يترك رفقة السوء، وينام مبكراً، ويستيقظ لصلاة الفجر، ويترك الغناء، والأفلام، والسهرات، فإن ذلك صعب عليه... هذا إن كان من أهل الشهوات.
أما إن كان من أهل الشبهات فيقول: أين أضع وجهي إذا قالوا: ترك الطريقة وتخلى عن المذهب، وأصبح من
أهل السنة؟! فهذا دواء مر لا أقدر عليه، فهو يعترف بالمرض، ولكنه يريد العلاج كما يحب، ولا يوجد علاج كما يريد المرضى، ولو وجد مستشفى في الدنيا يعالج المرضى كما يريدون، فهو مستشفى فاشل.
فمشكلة كثير من الناس أنه لا يريد تحمل مرارة الدواء؛ لأنه ضعيف الإرادة والعزيمة.
أما أهل الإيمان الذين يريدون الدار الآخرة ويخشون الله سبحانه وتعالى، ويريدون أن ينقذوا أنفسهم من عذاب الله ومن موجبات غضبه، فإنهم لا يبالون، فليكن الدواء مراً، فهو دواء عذب، فالمرارة إنما أتت من اللسان ومن القلب لفسادهما.
والقرآن دواء وشفاء كما ذكر
ابن القيم رحمه الله، أما من كان قلبه أغلف فهو لا يريد أن يسمعه، وفي أذنه وقر، وهو عليه عمى، كما قال تعالى: ((
وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى))[فصلت:44] فالقرآن مادة وأصل كل خير، إلا أنه يكون على مرضى القلوب عمى؛ لأن جهاز الاستقبال لديهم معطل.
إذاً: مرارة الدواء ليست منه في الحقيقة؛ لكنها من ضعف الإرادة والعزيمة التي تحجز صاحبها عن أن يؤمن بالحق وأن يتبعه؛ وإن خالف الهوى وخالف ما يريده الناس، ولقي في سبيله ما لقي؛ فالحق ثمين نفيس، وسلعة الله -التي هي الجنة- غالية، وقد حفت بالمكاره، أما النار فقد حفت بالشهوات، لكن النهاية تلك الحفرة البعيدة القعر، المظلمة المنتنة.
فالعاقل يختار لنفسه؛ إما أن يتحمل مرارة الدواء ويصبر، ويجده بعد ذلك لذيذاً ويشفى بإذن الله سبحانه وتعالى، وإما أن يؤثر هواه ودنياه، فتكون عاقبته الخسران والسقوط.
فالمصنف هنا ذكر لصاحب القلب المريض حالات: الحالة الأولى: أن يموت القلب ولا يشعر به صاحبه، والحالة الثانية: أن يشعر بالمرض، لكنه لا يتحمل مرارة الدواء، والحالة الثالثة: أن يوطن نفسه على الصبر، ثم ينفسخ عزمه، وقد سئل بعض السلف: [[ بم عرفت ربك؟ فقال: بانحلال الهمم، وانفساخ العزائم]].